ثقافة الجمال

أحد, 03/02/2019 - 22:50

يقول شربل داغر في مقدمة الطبعة العربية لكتاب مارك جيمينيز «ما الجمالية؟»: «إن طرح مسألة الفن وحكم الذوق هو فتح الفضاء الكبير لحرية الحكم، والاتصال والتبادل». ويشرح أن «ميلاد الجمالية ناسب إقامة الفضاء العمومي، وانبناء فكر نقدي، أصاب تدريجيا جميع مبادئ السلطة الماورائية، والفلسفية، والدينية، والسياسية». وقد عنى هذا «عند ورثة كنْت وهيغل تحديدا، اكتشاف ميدان المخيلة، والشهوات، وأنواع الحدس والانفعالات».
في بداية هذا القرن تزحزحت الأفكار على المسار الجمالي، لتصبح هوسا عالميا، إذ لم يعد الجمال من المعطيات الصعبة وغير الممكنة، بل تخطّاها لمراحل متقدمة من صناعة الجمال، والتّسويق لنوع معين منه، يتفاعل معه الفرد بمنطق الحاجة من أجل الشعور بالرضى على النّفس. بدون السؤال عن الأهداف السليمة من الجمال؟ وعن فكرة الجمال في حدّ ذاتها، وما تحويه من مخاطرات، ولنتذكّر أن كَنْت لا يسمح لنا حتى أن نقول «زهور الأقحوان جميلة»، حسبما يورده أحد دارسي علم الجمال، ليضعنا أمام حقائق جمالية تتجاوز الملموس إلى أبعاده الفلسفية. والصراحة أنّ ما أورده هنا، لا أريده أن يكون مجرّد تلخيص لنظرية الجمال، كأن نعود للمفهوم الأفلاطوني له، أو المفهوم «الكانتي» أو «الهيغلي» وكيف تكامل منذ ولادته وفق جدل طويل، حتّى أنجب الحضارة الأوروبية التي نعرفها اليوم، ولكنني أريد أن أطرح الموضوع من باب «الإنسان كمادّة جمالية» وهذا ما قد يثير أسئلة خطيرة حول تشييء الإنسان، أو تدويره، ونقله من مصاف المُشتَغِل بالجمال إلى المُشتَغَلِ به، انطلاقا من المجتمع الذي أعيش فيه، والذي قليلا ما يشتغل بنظرية الجمال على الأعمال الفنية، ولكنّه في المقابل يستخدم «شيئا» مشابها – لا أجد له مصطلحا دقيقا- يطبقه على الإنسان، وتحديدا على المرأة، لأنها وفق المعطيات الاجتماعية التي نملكها، هي العنصر الوحيد الذي يتمثّل فيه الجمال، والذي لا يزال يشدُّ اهتمامنا أكثر من العمارة، والنحت، والفنون التشكيلية، والشعر والأدب، والموسيقى وكل الفنون الجميلة الممكنة، التي انحسرت عن حدود اهتمامنا لأسباب يصعب اختصارها.

فكرة الجمال في مجتمعنا تتوقف اليوم، عند مقاسات معينة لجسد المرأة، وهو ما أدخل المرأة، خاصة في بلدان معينة مرتاحة ماديا، في دوّامة البحث عن الكمال الجسدي، وجمال الوجه.

سيقول البعض إن غياب الفنون الجميلة عندنا، غيّب بالضرورة النّقد الجمالي حتى أكاديميا، وربما حُصِر في دراسات بسيطة متعلّقة بنصوص أدبية، لن ترقى أبدا لما وصلت إليه دراسات الغرب، وهذا رأي قريب من الواقع، ولكننا بحاجة اليوم إلى أن نفهم علم الجمال، ونشجع عليه، كونه يبحث في النظرة العميقة للإنسان لما حوله، وتعاطيه مع ما هو جميل، بحيث يصبح الجمال مطلبا أساسيا لحياته، ولا يتوقف عند حدود المرأة الجميلة التي تزين بيته.
نعم فكرة الجمال في مجتمعنا تتوقف اليوم، عند مقاسات معينة لجسد المرأة، وهو ما أدخل المرأة، خاصة في بلدان معينة مرتاحة ماديا، في دوّامة البحث عن الكمال الجسدي، وجمال الوجه، وهذا إن كان موضوعا قديما متجدِّدا، فإنّه اليوم تحوّل إلى هوس، وأصبح الإمعان في خطوط وجه امرأة ما، واستدارة مؤخرتها، وحجم عينيها وتقويسة حاجبيها، ورقّة أنفها وتفاصيل أخرى، أهم بكثير من القصيدة التي تلقيها بصوت جميل، مع أن جمهورها يُفترض أنه قصدها للإصغاء لشعرها لا للتدقيق في مقاسات جسدها. ويتم ذلك التدقيق وفق مقارنة بائسة مع نماذج جمالية نسائية مستوردة، مثل الأمريكية كيم كارداشيان مثلا، التي تربّعت على عرش النجومية بمؤخرتها، بعد انتشار فيديو جنسي لها منذ سنوات، وهي تعد اليوم نجمة تلفزيونية، ونموذجا جماليا يُحتذى به، وبدل إبراز الاختلافات الاجتماعية بين ثقافتين جماليتين، ننصهر كمجتمع مستهلك في الثقافة المستوردة إلينا، بعد تدمير جمالياتنا الخاصّة مع الزمن، وتحويل حياتنا إلى وعاء فارغ من أي نوع من الجماليات.
لكن لحظة، هناك بريق أمل وسط هذه الحمى، وهي إدراك الفرد العربي لقيمته الجمالية، إذ برزت مؤخرا، عمليات تجميلية كزراعة الشعر للرجال والنساء، لمحاربة الصلع، وشفط الدهون واتّباع حمية غذائية من أجل تفادي اكتساب الدهون في الجسم، والإقبال على الرياضة للحفاظ على القوام الرّشيق، ومحاربة التجاعيد الخفيفة بالنوم لساعات كافية، ولا بأس بحقنها بمواد خفيفة بدون تأثيرات جانبية لتأخير ظهورها. هذا الاهتمام بالذات، بالتأكيد سيكون له استمرار جيد خارج الجسد، يمتد بشكل طبيعي للوسط الذي يعيش فيه الفرد، وحسب قراءتي لهذه الظاهرة وهي في أوجها اليوم، خاصّة عند الطبقات المقتدرة من المجتمع، فإن المرحلة المقبلة ستمس تجميل المكان بدءا بالبيت الذي نعيش فيه، إلى الحي، إلى المدينة، إلى تطبيق فكرة خلق الجمال على مدى أوسع للشعور باللذة الشخصية، وهي الشعور الطبيعي النابع من رؤية الجمال ولمسه.
إن كل النظريات المتعلّقة بالجمال، تصب في فهم تلك العلاقة الغامضة بين الفنان والجمهور من خلال الفن، وهذا في حدّ ذاته، يؤكد ميلاد فلسفة جمالٍ، تكون لبنة أساسية لفكر مغاير لما عشناه على مدى عقود من الزمن، كرّسنا خلالها لكل أنواع البشاعة.
وأعتقد بدون مبالغة، أن انتشار نموذج جمالي للمرأة، مثل بعض جميلات الشاشة الصغيرة والكبيرة، لا ضرر فيه، فقد كنا في زمن مضى نقلّد سعاد حسني، وفاتن حمامة، وهند رستم، ولكن زمن الأبيض والأسود، لم يكن عنيفا ضد أذواقنا، كما هو الزمن الإلكتروني اليوم، كنا نكتفي بتسريحة الشعر، وتقمُص الأدوار الجميلة لنجمات السينما العربيات، بدون خضوع لعمليات تجميل، وشد وحقن وما إلى ذلك، كان الجمال يتسلل إلى أرواحنا عبر سلوك بأكمله، ونموذج أخلاقي فائق السحر، مفعم بالمشاعر الرومانسية الجميلة، والكلام النّاعم الذي يليق «ببنات العائلات المحترمات».

كان الجمال يتسلل إلى أرواحنا عبر سلوك بأكمله، ونموذج أخلاقي فائق السحر، مفعم بالمشاعر الرومانسية الجميلة، والكلام النّاعم الذي يليق «ببنات العائلات المحترمات».

أقول ذلك وأنا أستحضر كل الشخصيات النسائية التي ساهمت في تكوين ذائقتي الجمالية، وأقارنها بالكاتالوجات المقدمة اليوم كبديل جمالي لنساء يشبهن الدمية، لا يتكلّمن كثيرا بقدر ما يتحرّكن كثيرا، لا يخاطبن أدمغتنا بقدر مخاطبتهن لغرائز إثارة الإعجاب، وعلى فكرة ينزلق الرجال في المنحدر نفسه وإن بسرعة أقلّ، وأعتقد إن لم نحاول فرملة أنفسنا نساء ورجالا فقد نصاب ببعض التأثيرات الجانبية السيئة. هذا الأمر ليس بالمزعج لصناع الجمال في الغرب، كون السوق العربية اليوم تقبل بنهم على المنتج الجمالي الغربي خاصة المستهلك في الخليج، الذي تزداد نسبة استهلاكه كل سنة ويُتوقّع لها أن تبلغ 13.5 مليار دولار سنة 2020 ، وهذا يضعنا أمام تساؤل كبير: «هل نحن مستهدفون كمستهلكين فقط؟ أم أن هذا انعكاس لإدراكنا الحقيقي لقيمة أجسادنا، وأهمية الاعتناء بها وإبراز جمالياتها، ولنتذكر فقط أننا في فترة قريبة جدا، لم تكن تعنينا الابتسامة الجميلة الكاشفة عن أسنان بيضاء برّاقة، حتى ونحن نحفظ البيت الشعري الشهير لعنترة بن شداد الذي يتغزل به بثغر عبلة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل … وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنّها … لمعت كبارق ثغرك المتبسم
لكن الأمور تغيرت اليوم، أمام دخول الابتسامة الهوليوودية إلى ثقافتنا، وتنوع طرق العناية بالأسنان وصحة اللثة وجمال الشفاه، ونقاء رائحة الفم، وهذه لا شيء أمام مستحضرات كثيرة دخلت حماماتنا، مخصصين منها أنواعا للشعر، وأخرى للجسد، وبعضها للأقدام، وبعضها الآخر للأيدي، وكثيرة منها للوجه، فقد أصبح لكل عضو أهميته، والإبقاء على بريقه وجماله من ضروريات حياتنا. ويبدو جليا أن ثقافة الجمال هذه قلبت مفاهيم كثيرة لدينا، أقلُّها أنها جعلتنا نحب الحياة، ونتوقف عن النحيب في انتظار الآخرة.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

 بروين حبيب

alquds.co.uk

جديد الأخبار