
إيران لا تعير أي اهتمام للبوليساريو أو الجزائر إلا بالقدر الذي سيسهلان عليها تحويل الصحراء المغربية إلى منطقة صراع عسكري
تدرك إيران أنها تواجه عقبات كبيرة لتنزيل استراتيجيتها التوسعية في إفريقيا، فضلا عن إدراكها لقوة الاختبارات التي تفرض عليها اللجوء إلى «النماذج الممكنة للتعاون» لتحقيق نوع من التوازن في الصراع مع منافسيها الإقليميين «الولايات المتحدة الأمريكية، المغرب، فرنسا، إسرائيل، السعودية، الإمارات..إلخ».
ويبرز الاستعداد الإيراني للتغلغل في إفريقيا، من خلال بناء شبكة معقدة تتكون من الجهات الفاعلة غير الحكومية في مجموعة من الدول، والمغتربين الشيعة اللبنانيين في أفريقيا «ما بين 200.000 و300.000 لبناني يعيشون في أفريقيا، وتحديدا في الكوت ديفوار والسنغال ونيجيريا»، فضلا عن الجماعات المسلحة في العديد من بؤر التوتر، مثل جبهة البوليساريو التي تسارع طهران إلى استغلال إحباطاتها الديبلوماسية وفشلها العسكري هي وممولتها الجزائر، من أجل تحويلها تدريجيا إلى ميليشيا تابعة لها بشكل كامل.
إن المرمى البعيد لإيران هو أن تحول إفريقيا إلى بيئة إقليمية تابعة لها إيديولوجيا، وأيضا عسكريا وسياسيا، من خلال تثبيت الوكلاء كطوق محلي لمنع القوى الإقليمية المتنافسة من تركيز نفوذها.
وتسعى طهران من خلال تسليح البوليساريو بالطائرات المسيرة «الدرون»، وتوظيف عناصر من حزب الله لتدريب مرتزقة على استعمالها بتواطؤ مفضوح من كابرانات الجيش الجزائري، إلى إرغام المغرب على الخروج من المنافسة على منطقة غرب إفريقيا، وتحييد نفوذه الديني والاقتصادي، وإلهائه بتأجيج حرب على حدوده. وهو ما أكدته مجموعة من التقارير الاستخباراتية الدولية، بل أكده قيادي البوليساريو، عمر منصور، الذي قال إن «البوليساريو» تعتزم استعمال طائرات مسيّرة إيرانية لقصف أهداف مغربية على طول الجدار الأمني في الصحراء، مما دفع الرباط إلى تحذير الجبهة الانفصالية، وتهديدها باتخاذ «ردّ قوي ومناسب» في حال المس بأمن أراضيها، متهمة طهران بـ «زعزعة استقرار» المنطقة.
وتشير جل التقارير، بما فيها تلك التي توصل بها الاتحاد الأوروبي أو البانتاغون إلى أن إيران قامت بتزويد «البوليساريو» بأسلحة متطورة، من بينها طائرات مسيّرة. وقال الخبير الأمريكي في الشأن الإستراتيجي لي ولين كينغ، إن «إيران تملك طائرات مسيرة يتم نشرها حاليا في شمال إفريقيا، وقد تشكل تهديدا مباشرا للمغرب، خاصة أن إيران توصلت إلى استنتاج مفاده أن قوتها لا تكمن في منافسة القوة على القوة؛ ولكن في مساعدة الصراعات غير المتكافئة، وهذا هو سبب إنفاقها الكثير من المال والوقت على الإرهاب، والكثير من المال والوقت على الصواريخ الباليستية»، بحسب ما ذهب إليه النائب الأول لرئيس مجلس السياسة الخارجية الأمريكية، إيلان بيرمان.
وليس خافيا على أحد أن طهران تسعى إلى تأجيج التوتر في المنطقة، بالتعويل أساسا على العداء الجزائري المتجذر للمغرب، من خلال خلق بؤرة للتوتر في الصحراء، وأيضا منع أمريكا وإسرائيل ودول من الاتحاد الأوروبي من ربح مساحات إضافية في هذا الصراع الإقليمي، خاصة أنها جربت الأمر مع حزب الله في لبنان، ومع الحوثيين في اليمن، وتريد أن تجربه مع البوليساريو التي تلقت ضربات ديبلوماسية موجعة رفقة رعاتها في قصر المرادية، ذلك أن الطائرات المسيرة لم تعد خيارا ثانويا في المنظومات الحربية الحديثة، بل تحولت إلى دعامة استراتيجية لتحقيق الفارق في الميدان. وهذا ما يعني نقطة تحول مركزية في صراع الصحراء، خاصة إذا تمكنت طهران من تحقيق مآربها الخبيثة، ذلك أن العنوان العريض للموقف هو زعزعة استقرار قارة، مثلما وقعت زعزعة استقرار اليمن وسوريا والعراق ولبنان.
إن الخطوة الإيرانية المعادية للمغرب لا يجيب عليها قيام المغرب لقطع علاقاته الديبلوماسية مع إيران، بل تجيب عليها استراتيجية إيران في تحقيق النفوذ العابر للقارات، خاصة أن الحضور الإيراني في إفريقيا بدأ مع وصول رفسنجاني لسدة الحكم، بين عامي 1989 و1997، إذ وضع استراتيجية للشراكة الاقتصادية مع الدول الأفريقية، وهي الاستراتيجية نفسها التي بلغت ذروتها بعد وصول أحمدي نجاد إلى كرسي الرئاسة، والتي توجت بتأسيس مصنع شركة «إيران خودرو» للسيارات في السنغال عام 2007، ومنه قامت إيران بتصدير منتجاتها من السيارات إلى سائر دول أفريقيا. وغني عن القول أن الاهتمام الإيراني بإفريقيا بدأ في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حيث ضاعفت إيران سفاراتها في دول إفريقيا جنوب الصحراء من تسع إلى ثماني عشرة سفارة، مما ساهم في ظهور مراكز ثقافية لترويج الثقافة والإيديولوجيا الإيرانية في البلدان الإفريقية الأخرى، وخاصة على مستوى نشر الفكر الشيعي، ودعم المتشيعين ماليا، وحمايتهم، وتجنيدهم من أجل العمل على توسيع رقعة الإيديولوجيا الشيعية. ولم يسلم من ذلك حتى المغرب الذي يتوفر على نفوذ ديني تاريخي تسعى إيران إلى الإطاحة به، ليسهل عليها الانتقال بسلاسة إلى محاولة مزاحمة القوى الدولية المعروفة في إفريقيا.
وتبعا لذلك، يعتبر التنافس العقائدي بين المغرب وإيران أهم فصول الصراع السياسي والاستراتيجي بين البلدين، خاصة أن إيران تستعمل التشيع كذراع إيديولوجية لتوسيع الفارق عن الفاعلين الآخرين، بينما قام المغرب بتأسيس معهد محمد السادس لتكوين الأئمة، إضافة إلى مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة «تمتلك 32 فرعا لها في دول إفريقيا»، بغاية اعتراض محاولات نشر التشيع في إفريقيا، وذلك ضمن استراتيجية دينية تسعى لتكريس النموذج الديني المغربي، حيث تعتبر الرباط «الأمن الروحي للمغاربة وللقارة الإفريقية من بين أولويات التصدي للأطماع الإيرانية في القارة».
لقد بدأت الأطماع الإيرانية في إفريقيا تمس بشكل واضح استقرار الأراضي المغربية، كما بدأت تزحف بسرعة قصوى لتمتد إلى مختلف المناطق التي ترمي طهران إلى إلحاقها بـ «الهلال الشيعي»، وذلك في إطار سعيها التوسعي الاستراتيجي إلى خلق مناطق نفوذ ونقاط تماس جديدة مع القوى العالمية، تمكنها من مناوشتها وابتزازها وتذكيرها بأن طهران موجودة كـ «قوة منافسة قاهرة»، ولو على حساب أمن شعوب المناطق التي تسعى إلى تعزيز نفوذها فيها.
إن إيران لا تعير أي اهتمام للبوليساريو أو الجزائر إلا بالقدر الذي سيسهلان عليها تحويل الصحراء المغربية إلى منطقة صراع عسكري، وتذليل الصعاب أمام زحفها الإيديولوجي الشيعي على حساب النفوذ الديني المالكي للمغرب، في أفق مقارعة القوى الكبرى على الموارد الطبيعية للقارة